هذه القراءة من كتابات الشاعر علي الفسي – بنغازي - عن موقع الإجدابي .
الإغفاء في مهد الغلا
( إذا لم يأتِ الشعر طبيعيًّا كما تنمو الأوراق على الأشجار فخير له ألا يأتي ) - جون كيتس –
(مهد الغلا ) أول إصدار للشاعر الغنائي المبدع عبد السلام الحجازي ، هو طموحٌ لشاعر يصوغ اللُّغة وطنًا ، و يثوي فيها , ولهُ مطلق المكان والزمان ، و يصيِّر الشِّعرَ هويَّةً ومأوى ، تلك ماهيَّة ذات الشاعر ،كأنها فضاء للصمت والصخب معًا ، جرعات من الفكر الوجودي يؤدِّي إلى اندلاق المعنى وتسرُّبه إلى وجدان المتلقي.وإذا كنت ممَّن يبحث عنِ القصيِّ والعصيِّ ستقتحمك النصوص هنا برغبة متوحِّشة لتقودك إلى منابع الدهشة وتستعيد زمام البدايات في احتفالية دائمة تعانق بها عوالم ملحمية بحثًا عن تأسيس ٍمختلف للماضي في قالب الحاضر,وللحاضر أحيانًا بقوالب مُفَلسَفة . ماذا بقي للشعراء الذين يسكبون أحلامهم على ضفاف الكلمات . قصيدة أنوثتها مملوءةً بالدفء,مشبعة بالفتنة العارمة ، متوهِّجةً ،يغمرها الحلم ويفتن بها الممكن واللا ممكن.
مهد الغلا . .منذ الكلمة الأولى في القصيدة الأولى ، تجد أن وتيرة اللغة النمطية الشائعة كُسرت وأن الكيفية التي بُـنيت عليها هيئة القصيدة ، تتجاوز المعتاد وتجترح لغة مرنة معبرة غير تقليدية، حتى أنك تشعر أنها شيء مألوف ، يأتيك بسلاسة وعفوية ، خالقة هيئتها الضرورية لنسج الانسجام وتماسك الرؤية الشعرية التي تؤسِّس تجربةً كاملةً.
من قلب حايس ..
ما عرف طعم السكينة ..
من وجه عابس ..
يبتسم بسمة حزينة ...
من روح في حضن الرَّجا ..
نامت وتحلم بيكم .
وإيدين ما تحس بدفا..
إلاّ بضمْها ليديكم ..
لأحباب كانوا هنا ..
وغابوا علي من سنة ..
حايوا تباريح الغلا الدَّفينة .
بعد التحية والمحبة والأشواق الحارّة ..
بعد التحية والمحبة والأماني السارّة ..
يا هل ترى انتو كيفنا .. امرايفين ..؟
وين الحديث يجيبكم .. تنده العين دموعها ..
ايجن سايلات ارياف؟
يا هل ترى أنتو كيفنا .. خايفين ..؟
من عين الحسود تصيبكم .. وتعطش نواوير الغلا ..
تذبل اتصيف اصياف ..؟
بهذه الإيقاعات الضوئية الباهرة يكتب الحجازي ( الرسالة) و يغزل من اللغة صورًا فنية قادرة على التجذُّر في وجدان المتلقي لتصبح حالة للمناغمة الجمالية الخالصة. تجعل من رقة المشاعر حاضرة بمشهدية لافتة دون الإغراق في الرومانسية ويردُّ بذلك عمَّن قالوا:( إن شعر عبد السلام الحجازي يخلو من الرقة والرومانسيَّة ) بكلمات باذخة الإحساس ينساب فيها الجمال كما ينساب الماء في عمق الغدير : فلا يفلُّ الجمال إلا الجمال .
لك قلب طاغي في الغلا ..
ينوي خلاف وخلاف .. ولي قلب صابر .
ولك جفن في دنيا الغلا ..
داعب أطياف وأطياف .. ونا طيف عابر ..
ـ لم أستطع أن أتجاهل هذه الكلمات فقد نـُحِتت بعناية من صميم المعنى لتجعل الكتابة الشعرية هنا مخيلةً راقية تغازل بوادر القصيدة وتخلق منها شكلاً مبتكرًا ورئة يملؤها الشهيق وهي وطن مطلق وهي وهج يغمره الحلم وطيف يُفتن به المكان، ماذا بقي من صور راقصة تضيف شيئًا جميلاً آخر إلى الشعر الغنائي.
كيف ما الشمس وقت الشروق اتبان ..
تشرق علي طلاَّتك ..انحس بدفا يا احبيِّبة ..
يملا جوانب داري .
ولما الشمس في غروبها تلبس قناع ألوان..
سبحان كيف وجناتك ..انحسَّك احذاي اقريِّبة ..
ونهمس لها بأشعاري .................
بردان .. يا شمس الدفا دفِّيني ..
نا عاشقك بالفطرة ..
عشق النظر للضيّ…….............
...ونامت علي وساد الأفق ..
تحلم برحلة أمس ..
نامت ،وغطَّاها الشفق ..
نوم الهنا يا شمس .
وها هي أراها تلوَّن الأفق .. ( الشمس ) ، هي القصيدة التي نحاول كتابتها دائمًا بصورة جديدة ، تتناص مع المأثور الشعري دون أن تتطابق معه ، رُسمت كلماتها ورُصَّت دلالاتها بعناية شديدة ، هذه (الشمس) التي تجعلك تستغني عن شغف الموسيقى مكتفيًا بهذه الصور التي تندلق بكثافة وتطبع شكلاً من أشكال التّضافر بين الملفوظات في مظهر من مظاهر الحضور الشّعري والسّردي النادر.(شمس).. تشاكس الشاعر وهذا الأخير يشاكسها بحواريَّة مبتكرة في سبيل امتلاك لبِّ القول الشعري.
ثم ماذا ..؟؟ لم أتكلم عن هموم الأمة في وجدان شاعرنا فقد جعل من أوجاعها ألمًا يأوي إليه ، وزمنًا يحياه.. ( بغداد .. يا خير أمة .. حكاية الشهيد .. سناء ).هذه النصوص أكثر التصاقًا بالواقع لا من ناحية ما تضمره من ممارسة للقلق وكشفٍ وتعريٍة لكل ما وراء الأحداث فحسب ، بل عبر اللغة التي تكتب نفسها كما هي ... تطيح بكل المتواليات التراتبية فيتلبَّد الأفق الفكري بضحايا هذا الوضع المتأزم.إن الشاعر وإن كان ينسج الحروف لاحتواءٍ متعطش لطفولته فهو لا يلجأ لهذا الاحتواء إلا لكي يطال جوهر الواقع والأمكنة والفضاءات ويُسقط علاقة الأنا بالآخر ويحاول أن ينتهك أحلامه ليحيلها من أضغاث تتراءى إلى ما ورائية عابقة بكل ما يثلج الصدر ، وكل ما يفضي إلى البوابة المثلى للخروج نحو شهوة مدهشة تنجلي عن فتنة بليغة ، يفتتن بها ليتحقق شيء من الإبداع والجمال لتؤكد خصوصيتها وهويتها المنشودة.ولولاها يكون الشعر مثل حجر أو حائط صامت .. وهكذا كان (( مهد الغلا )).